بينما يعترف مجلس الاحتياطي الفيدرالي بتجربته لانتكاسة في محاربته للتضخم، يطرح سؤال حاسم: لماذا لم يتباطأ الاقتصاد بالطريقة التي توقعها صانعو السياسة النقدية؟
أحد العوامل التي لم تُلقَ الضوء الكافي عليها في هذا السياق هو التزايد في الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيُغيِّر الصناعات، جنباً إلى جنب مع تخصيص مليارات الدولارات لتحقيق هذا الهدف.
وبالرغم من أن الاستثمار الكبير في الذكاء الاصطناعي، الذي يتوقع في النهاية زيادة في الإنتاجية والنمو الاقتصادي، قد يكون مفيداً للولايات المتحدة بشكل كبير، إلا أن هذا التوقيت يُعتبر الأسوأ بالنسبة للبنك الفيدرالي مع استمرار التضخم فوق هدفه المحدد عند 2%. ولسوء الحظ بالنسبة لصناع السياسة النقدية، يبدو أن شركات مثل “مايكروسوفت” و”ألفابت” و”أمازون دوت كوم” لا تعتبر مستويات أسعار الفائدة بأي حال.
يتعارض توقيت التطورات الرئيسية في مجال الذكاء الاصطناعي مع المعركة الشرسة التي يخوضها بنك الاحتياطي الفيدرالي للحد من ضغوط التضخم. وكانت بيانات التضخم القوية في يونيو 2022، التي أدت إلى رفع الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة المعياري بمقدار 75 نقطة أساس في أربعة اجتماعات متتالية، وراء قلق الأسواق من حدوث ركود، مما دفع الشركات إلى توخي الحذر في الإنفاق. وقد شهدت “إنفيديا” تراجعًا في إيراداتها السنوية في الربع الذي انتهى في أكتوبر 2022، وهي إحدى الشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على وحدات معالجة الرسومات الخاصة بها.
في الشهر التالي، أطلقت “أوبن إيه آي” (OpenAI) تطبيق “تشات جي بي تي”، مما أثار اهتمامًا كبيرًا بالذكاء الاصطناعي. وقد استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تستجيب الشركات لهذا التطور. ولكن من الواضح أن هذا الإثارة نحت مسارًا جديدًا، حيث أظهر تقرير أرباح “إنفيديا” في مايو 2023 أداءً فصليًا تجاوز توقعات وول ستريت بنسبة 50٪، مما أدى إلى قفزة في سعر السهم بنسبة 30٪ في يوم واحد.
شهدت الأسواق أفضل ما لديها لفترة طويلة، حيث استمر النمو وتباطأ التضخم بفضل عودة الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي بعد جائحة كورونا وإجراءات الاحتياطي الفيدرالي (لخفض الفائدة)، وتبنتها المستثمرون الذين ركزوا على الذكاء الاصطناعي، لكن التأثير الاقتصادي الفعلي لهذه الظاهرة كان محدودًا نسبيًا من الناحية النقدية.
أظهرت تقارير أرباح الربع الأول لشركات التكنولوجيا الكبرى خلال الأسبوع الماضي أو نحو ذلك كيف تغيرت الأمور. فأعلنت “مايكروسوفت”، التي يمكن اعتبارها رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التي تحدد الوتيرة هنا
، عن زيادة في النفقات الرأسمالية – الوعاء الاستثماري حيث تقع منتجات “إنفيديا”- بنسبة 66٪ على أساس سنوي. وأعلنت “ألفابت”، الشركة الأم لـ”غوغل”، عن ارتفاع في النفقات الرأسمالية بنسبة 91٪ مقارنة بالعام السابق. وتحدثت “ميتا بلاتفورمز”، الشركة الأم لـ”فيسبوك”، عن خطط “للاستثمار بقوة” لدعم أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطوير المنتجات. وتوقعت “أمازون” زيادة في النفقات الرأسمالية الإجمالية “بشكل ملحوظ على أساس سنوي في 2024″، حيث تدعم الاستخدام القائم على الذكاء الاصطناعي لخدمة “أمازون ويب سيرفسيز” (Amazon Web Services).
هناك درجة من المهارة الأساسية في إدارة المهام أظهرتها شركات التكنولوجيا الكبرى فيما يتعلق بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وتقبل فكرة أن مستثمريها لا يرغبون في التساهل في الإنفاق مثلما فعلت عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة.
وكان ذلك واضحاً في تأكيد مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا”، على التركيز المستمر “على تشغيل بقية شركتنا بكفاءة”، أو في الحقيقة استقرار عدد الموظفين في “ألفابت” على نطاق واسع في الأرباع الثلاثة الأخيرة على الرغم من ارتفاع الإقبال على الذكاء الاصطناعي، والذي يرافق ذلك إنفاقًا ضخمًا.
هوى سهم “ميتا” بأكثر من 10٪ بعد أن أكد زوكربيرغ أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي لن يجلب الكثير من الإيرادات على المدى القريب، في حين لم يتمكن سهم “مايكروسوفت” من الارتفاع على الرغم من تجاوز التوقعات الفصلية للمبيعات والأرباح. وكانت “ألفابت” هي الفائز الأكبر في موسم الأرباح حتى الآن، حيث أظهر المستثمرون حماسًا بشأن قدرة ضوابط التكاليف على زيادة هوامش الربح، وأول توزيع أرباح للشركة على الإطلاق بشكل أكبر من إعلان النفقات الرأسمالية في المستقبل.
على الرغم من هذه التحديات والانعطافات، يُتوقع أن يبلغ الإنفاق الذي يركز على الذكاء الاصطناعي عشرات المليارات من الدولارات في عام 2024، نظرًا للتأثير المشترك لاستثمارات التكنولوجيا الكبرى والمستثمرين الذين يضخون الأموال في الشركات الناشئة في هذا المجال. وتتطلب الرقائق القوية التي يمكنها تشغيل نماذج التدريب والاستدلال الخاصة بالذكاء الاصطناعي أيضًا بناء مراكز بيانات جديدة واستثمارات في توليد الكهرباء وتوزيعها. ورغم أن مهد الثورة الصناعية في سان فرانسيسكو، فإن آثارها تمتد بالفعل إلى أماكن مثل جنوب شرق الولايات المتحدة.
تشكل أسهم “مايكروسوفت” و”إنفيديا” و”ألفابت” و”ميتا” نحو 20٪ من مؤشر “إس أند بي 500” وكانت وراء قفزة المؤشر بنسبة 23٪ منذ تحديث أرباح “إنفيديا” في مايو الماضي. وتعتبر ارتفاعات سوق الأسهم مؤشرًا على سلامة واتجاه الاقتصاد الأمريكي، فضلًا عن تأثيره على ثروة ملايين الأمريكيين الذين يستثمرون في الأسهم (أي تغير مستوى الإنفاق المصاحب لتغير حجم الثروة). وقد أدى ذلك إلى تعزيز الثقة لدى المستهلكين والشركات وتقليل المخاوف من حدوث الركود.
إذا كان الإنفاق على الذكاء الاصطناعي والثقة هما على الأقل جزء من أسباب عدم اتباع التضخم والنمو المسار الذي توقعه الاحتياطي الفيدرالي، فإنه ليس من الواضح ما يمكن أو ينبغي لصانعي السياسة فعله حيال ذلك.
وهل يُعتقد حقًا أن رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار 50 نقطة أساس إضافية سيمنع “مايكروسوفت” أو “ميتا” من المضي قدمًا في سعيهما لاستغلال فرص الذكاء الاصطناعي؟ يُمكن القول إن دورات الاستثمار التكنولوجي عشوائية ولا يمكن التنبؤ بها، وليست دائمًا بالشيء الذي يمكن لبنك مركزي السيطرة عليه. وكان توقيت هذا الأمر مؤسفًا بالنسبة للبنك الفيدرالي، لكن المسار الصحيح للعمل هو الانتظار بدلاً من مواصلة الضغط على القطاعات الحساسة لأسعار الفائدة في الاقتصاد والتي تعاني بالفعل.